فصل: باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ‏)‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِى بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، فَقِيلَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَالَ‏:‏ وَمَنِ النَّاسُ إِلا أُولَئِكَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ‏:‏ فَمَنْ‏؟‏‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لتتبعن سنن من كان قبلكم‏)‏‏.‏

بفتح السين هو أولى من ضمها؛ لأنه لا يستعمل الشبر والذراع إلا فى السنن وهو الطريق فأخبر صلى الله عليه وسلم أن أمته قبل قيام الساعة يتبعون المحدثات من الأمور، والبدع والأهواء المضلة كما اتبعتها الأمم من فارس والروم حتى يتغير الدين عند كثير من الناس، وقد أنذر صلى الله عليه وسلم فى كثير من حديثه أن الآخر شر، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصة من المسلمين لا يخافون العداوات، ويحتسبون أنفسهم على الله فى القول بالحق، والقيام بالمنهج القويم فى دين الله وفى رواية الأصيلى‏:‏ ‏(‏بما أخذ القرون‏)‏‏.‏

وللنسفى وابن السكن‏:‏ ‏(‏بأخذ القرون‏)‏‏.‏

وقال ثعلب‏:‏ أخَذَ أَخْذ الجهة‏:‏ إذا قصد نحوها‏.‏

باب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّه، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ، الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ مِنْ دَمِهَا لأنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه الأخذ بالمآل، والحديث على معنى الوعيد‏.‏

وهذا الباب والذى قبله فى معنى التحذير من الضلال واجتناب البدع ومحدثات الأمور فى الدين، والنهى عن مخالفة سبيل المؤمنين المتبعين لسنة الله وسنة رسوله التى فيها النجاة‏.‏

باب مَا ذَكَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ، وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَمُصَلَّى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ

- فيه‏:‏ جَابِر، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى الإسْلامِ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

فَقَالَ‏:‏ أَقِلْنِى بَيْعَتِى‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

فَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِى خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ، فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بِمِنًى‏:‏ لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قَالَ‏:‏ إِنَّ فُلانًا يَقُولُ‏:‏ لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلانًا، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ لأقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ، فَأُحَذِّرَ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ، قُلْتُ‏:‏ لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، فَأَخَافُ أَنْ لا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ، وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ مُحَمَّد، كُنَّا عِنْدَ أَبِى هُرَيْرَةَ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ، فَقَالَ‏:‏ بَخْ بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ، يَتَمَخَّطُ فِى الْكَتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَإِنِّى لأخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَحُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيه، فَيَجِىءُ الْجَائِى فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِى، وَيُرَى أَنِّى مَجْنُونٌ، وَمَا بِى مِنْ جُنُونٍ مَا بِى إِلا الْجُوعُ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قيل له‏:‏ أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، وَلَوْلا مَنْزِلَتِى مِنْهُ مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ، فَأَتَى الْعَلَمَ الَّذِى عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، فَصَلَّى، وَخَطَبَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِى قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ‏:‏ ادْفِنِّى مَعَ صَوَاحِبِى، وَلا تَدْفِنِّى مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى الْبَيْتِ، فَإِنِّى أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ‏:‏ ائْذَنِى لِى أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَىَّ، فَقَالَتْ‏:‏ إِى وَاللَّهِ، قَالَ‏:‏ وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَتْ‏:‏ لا وَاللَّهِ، لا أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى الْعَصْرَ، فَيَأْتِى الْعَوَالِىَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ‏.‏

وقال يُونُسَ‏:‏ وَبُعْدُ الْعَوَالِىَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلاثَةٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ السَّائِب، كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ، وَقَدْ زِيدَ فِيهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِى مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِى صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ‏)‏، يَعْنِى أَهْلَ الْمَدِينَةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّى أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْلٍ، أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِى الْقِبْلَةَ وَبَيْنَ الْمِنْبَرِ مَمَرُّ الشَّاةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، سَابَقَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْخَيْلِ، فَأُرْسِلَتِ الَّتِى ضُمِّرَتْ مِنْهَا، وَأَمَدُهَا إِلَى الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَالَّتِى لَمْ تُضَمَّرْ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ عُمَرَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ أن السَّائِبُ، سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطَبَنَا عَلَى مِنْبَرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ يُوضَعُ لِى وَلِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْمِرْكَنُ، فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، حَالَفَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الأنْصَارِ وَقُرَيْشٍ فِى دَارِى الَّتِى بِالْمَدِينَةِ، وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو بُرْدَةَ، قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَنِى عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ، فَقَالَ لِى‏:‏ انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَأَسْقِيَكَ فِى قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَتُصَلِّى فِى مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَسَقَانِى سَوِيقًا، وَأَطْعَمَنِى تَمْرًا، وَصَلَّيْتُ فِى مَسْجِدِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عُمَرَ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى، وَهُوَ بِالْعَقِيقِ، أَنْ صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ، وَقُلْ‏:‏ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ‏)‏‏.‏

وروى ‏(‏عُمْرَةٌ فِى حَجَّةٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أُرِىَ وَهُوَ فِى مُعَرَّسِهِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، وَقَّتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَرْنًا لأهْلِ نَجْدٍ، وَالْجُحْفَةَ لأهْلِ الشَّأْمِ، وَذَا الْحُلَيْفَةِ لأهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ، وَذُكِرَ له الْعِرَاقُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ غرضه فى هذا الباب تفضيل المدينة بما خصها الله به من معالم الدين، وأنها دار الوحى ومهبط الملائكة بالهدى والرحمة، وبقعة شرفها الله بسكنى رسوله وجعل فيه قبره ومنبره وبينهما روضة من رياض الجنة، وجعلها كالكير تنفى خبث الفضة وتخلص من بقى فيها من أن يشوبهم ميل عن الحق، ألا ترى قول ابن عوف لعمر بن الخطاب‏:‏ إنها دار الهجرة والسنة، وإن أهلها أصحاب النبى الذين خصهم الله بفهم العلم وقوة التمييز والمعرفة بإنزال الأمور منازلها‏.‏

وأما حديث أبى هريرة فإنما ذكر وقوعه بين المنبر وحجرة عائشة الذّين هما من معالم الدين وروضة من رياض الجنة، إعلامًا منه بصبره على الجوع فى طلب العلم، ولزوم النبى صلى الله عليه وسلم حتى حفظ من العلم ما كان حجة على الآفاق ببركة صبره على المدينة‏.‏

فأما قول ابن عباس‏:‏ شهدت العيد ولولا مكانى من الصغر ما شهدته‏.‏

فمعناه‏:‏ أن صغير أهل المدينة وكبيرهم ونسائهم وخدمهم ضبطوا العلم والسنن معاينة منهم فى مواطن العمل من شارعها المبين عن الله تعالى وليس لغيرهم هذه المنزلة‏.‏

وأما إتيان النبى صلى الله عليه وسلم قُباء فمعناه‏:‏ معاينة النبى ماشيًا وراكبًا فى قصده مسجد قباء، وهو معلم من معالم الفضل ومشهد من مشاهده صلى الله عليه وسلم وليس ذلك لغير المدينة‏.‏

وأما حديث عائشة وأمرها أن تدفن مع صواحبها كراهة أن تزكى بالدفن فى بيتها مع النبى صلى الله عليه وسلم وصاحبيه؛ لئلا يظن أحد أنها أفضل الصحابة بعد النبى وصاحبيه، ألا تسمع قول مالك للرشيد حين سأله عن منزلة أبى بكر وعمر من النبى فى حياته، فقال له‏:‏ منزلتهما منه فى حياته كمنزلتهما منه بعد مماته‏.‏

فزكاهما بالقرب منه فى البقعة المباركة والتربة التى خلق الله منها خير البرية، وأعاده فيها بعد مماته‏.‏

فقام لمالك الدليل من دفنهما معه على أنهما أفضل الصحابة لاختصاصهما بذلك‏.‏

وقد احتج الأبهرى على أن المدينة أفضل من مكة، فإن النبى صلى الله عليه وسلم مخلوق من تربة المدينة، وهو أفضل البشر؛ فكانت تربته أفضل الترب‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما حديث أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى العصر فيأتى العوالى والشمس مرتفعة فمعناه‏:‏ أن بين العوالى ومسجد المدينة للماشى معلم من معالم ما بين الصلاتين يستغنى الماشى فيها يوم الغيم عن معرفة الشمس، وذلك معدوم فى سائر الأرض، فإذا كانت مقادير الزمان معينة بالمدينة لمكان بادٍ للعيان ينقله العلماء إلى أهل الآفاق ليتمثلوه فى أقاصى البلدان، فكيف يساويهم أهل بلدة غيرها، وكذلك دعاؤه لهم بالبركة فى مكيالهم خصهم من بركة دعوته ما اضطر أهل الآفاق إلى القصد إلى المدينة فى ذلك المعيار المدعو له بالبركة، ليمتثلوه ويجعلوه سنة فى معاشهم وما فرض الله عليهم فى عيالهم، وظهرت البركة لأهل كل بلدة فى ذلك المكيال‏.‏

وأما رجمه اليهوديين عند موضع الجنائز، فإن الموضع قد صار علمًا لإقامة الحدود وللصلاة على الجنائز خارج المسجد، وبه قال مالك فهمًا من الحديث‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏هذا جبل يحبنا ونحبه‏)‏ فمحبته للجبل توجب له بركة ترغب فى مجاورته لها، وعلى هذا التأويل تكون محبته للجبل ومحبة الجبل له حقيقة لا مجازًا بأن يحدث الله فى الجبل محبة، ويكون ذلك من آيات نبوته، وقيل فيه وجه آخر‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏(‏هذا جبل يحبنا ونحبه‏)‏‏.‏

هو على المجاز يريد أهل الجبل كقوله‏:‏ ‏(‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، يريد أهل القرية‏.‏

وأما مقدار ممر الشاة بين الجدار والمنبر، فذلك معلم للناس وسنة ممتثلة فى موضع المنابر ليدخل إليها من ذلك الموضع فينقض من القبر وينظف‏.‏

وأما ذكر مدى ما بين الحفياء وثنية الوداع، فمسافة ذلك سنة ممتثلة ميدانًا لخيل الله المضمرة‏.‏

وأما خطبة عمر، وعثمان على منبر النبى صلى الله عليه وسلم فإن ذلك سنة ممتثلة، فإن الخطبة تكون على المنابر لا بجانبها ليوصل الموعظة إلى أسماع الناس إذا أشرف عليهم، وكذلك مركن الماء الذى كانت تشرع فيه عائشة مع النبى صلى الله عليه وسلم للغسل، ومقدار ما يكفيها من الماء سنة، ولا يوجد ذلك المركن إلا بالمدينة، وكذلك موضع مخالفته صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار بالمدينة معروف ثبتت ببقائه جواز المحالفة فى الإسلام على أمر الدين والتعاضد فيه على المخالفين، وقد ذكر فى كتاب الأدب ما يجوز من الحلف في الإسلام وما لا يجوز، في باب الإخاء والحلف، فتأمله فيه، وكذلك قدحه صلى الله عليه وسلم ومكان صلاته لا يوجد فى غير المدينة، وكذلك وادى العقيق المبارك يوحى الله إلى رسوله وأن الله أنزل فيه بركة إحلال الاعتمار فى أشهر الحج، وكان محرمًا قبل ذلك على الأمم، وأمره بالصلاة فيه لبركته، وليس ذلك مأمورًا به إلا فى هذا الوادى الذى يقصده أهل الآفاق للصلاة فيه والتبرك به‏.‏

وكذلك توقيت النبى صلى الله عليه وسلم المواقيت لأهل الآفاق معالم للحج وللعمرة رفقًا من الله بعباده وتيسيرًا عليهم مشقة الإحرام من كل فج عميق، فهذه بركة من الله فى الحجاز موقوفة للعباد وليست فى غيره من البلاد، وفى جعل الله بطحاء العقيق المباركة مهلا للنبى صلى الله عليه وسلم ولأهل المدينة، وهى آخر جزائر المدينة، على رأس عشرة أيام من مكة وغيرها من المواقيت على رأس ثلاثة أيام من مكة فضل كبير ولأهل المدينة؛ لحمله تعالى عليهم من مشقة الإحرام أكثر مما حمل على غيرهم، وذلك لعلمه بتبصرهم على العبادة واحتباسهم لتحملها‏.‏

وكذلك صبرهم على لأواء المدينة وشدتها حرصًا على البقاء فى منزل الوحى ومثبت الدين؛ ليكون الناس فى موازنهم إلى يوم القيامة كما صاروا فى موازنهم بإدخالهم أولا فى الدين؛ لما وضع فيهم من القوة والشجاعة التى تعاطوا بها مقارعة أهل الدنيا، وضمنوا عن أنفسهم نصرة نبى الهدى فوفى الله بضمانهم على أعدائهم، وتمت كلمة ربك ودينه بهم فكانوا أفضل الناس؛ لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم بأحوالهم وأحكامه وآدابه وسيره‏.‏

ووجب لمن كان على مذاهب أهل المدينة حيث كان من أهل الأرض نصيب وافر من بركة المدينة واستحقوا أن يكونوا من أهلها لاتباعهم سنن رسوله الثابتة عندهم من علمائهم والمتبعين لهم بإحسان قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، والمرء مع من أحب‏.‏

ووجب أيضًا أن يكون لأهل مكة من ذلك نصيب؛ لأن عندهم معالم فريضة الحج كلها، وقد عاينوا من صلاته وأقواله صلى الله عليه وسلم فى المرات التى دخلها ما صاروا به عالمين، ولهم من بركة ذلك نصيب وافر وحظ جزيل، وقد اختلف أهل العلم فيما هم فيه أهل المدينة حجة على غيرهم من الأمصار، فكان الأبهرى يقول‏:‏ أهل المدينة حجة على غيرهم من طريق الاستنباط، ثم رجع فقال‏:‏ قولهم من طريق النقل أولى من طريق غيرهم، وهم وغيرهم سواء فى الاجتهاد‏.‏

وهذا قول الشافعى‏.‏

وذهب أبو بكر بن الطيب إلى أن قولهم أولى من طريق الاجتهاد والنقل جميعًا‏.‏

وذهب أصحاب أبى حنيفة إلى أنهم ليسوا حجة على غيرهم لا من طريق النقل، ولا من طريق الاجتهاد، واحتج من قال‏:‏ هم أولى بالاجتهاد من غيرهم بأنهم شاهدوا التنزيل وأقاويل النبى صلى الله عليه وسلم وعرفوا معانى خطابه وفحوى كلامه، فلذلك هم أولى من غيرهم بالاستنباط‏.‏

واحتج أصحاب الشافعى فقالوا‏:‏ من قال هذا القول فقد قال بالتقليد وقد أخذ علينا النظر فى أقاويل الصحابة والترجيح فى اختلافهم، فإذا قام لنا الدليل على أحد القولين وجب المصير إليه، وإذا صح هذا بطل التقليد، وإنما هم أولى من غيرهم من طريق النقل لصحة عدالتهم ومعاينتهم التنزيل ومشاهدتهم للعمل فأما الاستنباط فالناس فيه كلهم سواء‏.‏

وقوله بخ بخ‏:‏ كلمة تقال عند الإعجاب بالتخفيف والتثقيل‏.‏

والمركن‏:‏ شبيه تور من خزف يستعمل للماء‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، سَمِعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِى صَلاةِ الْفَجْرِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، فِى الأخِيرَةِ‏)‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا‏)‏، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏، يعنى ليس لك من أمر خلقى شىء، وإنما أمرهم والقضاء فيهم بيدى دون غيرى فيهم، وأقضى الذى أشاء من التوبة على من كفر بى وعصانى أو العذاب‏:‏ إما فى عاجل الدنيا بالقتل والنقم، وإما فى الآجل بما أعددت لأهل الكفر بى‏.‏

ففى هذا من الفقه أن الأمور المقدرة لا تغير عما أحكمت عليه؛ لقوله‏:‏ ‏(‏مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 29‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء ‏(‏فإنما هو فى النسخ أى‏:‏ ينسخ مما أمر به ما يشاء،‏)‏ وَيُثْبِتُ ‏(‏أى‏:‏ ويبقى من أمره ما يشاء‏.‏

وعن ابن عباس، وقتادة، وغيرهما‏.‏

وقيل‏:‏ ‏(‏يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء ‏(‏مما يكتبه الحفظة على العباد مما لم يكن خيرًا أو شراَ كل يوم اثنين وخميس، ويثبت ما سوى ذلك‏.‏

وعن ابن عباس أيضًا‏:‏ ‏(‏يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ‏(‏أى من آتى أجله محى، ومن لم يمض أجله أُثبت، وعن الحسن‏.‏‏)‏ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏، يعنى أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ‏.‏

والدعاء جائز من جميع الأمم، لكن ما ختم الله به من الأقدار على ضربين‏:‏ منه ما قدر وقضى، وإذا دعى وتضرع إليه صرف البلاء، وضرب آخر‏:‏ وهو الذى فى هذا الحديث الذى ختم بإمضائه، وقال لنبيه‏:‏ ‏(‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏ فى الدعاء على هؤلاء؛ لأن منهم من قد قضيت له بالتوبة، ومنهم من قد قضيت عليه بالعقاب فلابد منه لكن لانفراد الله بالمشيئة، وتعذر علم ذلك على العقول جاز الدعاء لله تعالى إذ الدعوة من أوصاف العبودية، فعلى العبد التزامها، ومن صفة العبودية الضراعة والمسكنة، ومن صفة الملك الرأفة والرحمة، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يقولن أحدكم‏:‏ اللهم ارحمنى إن شئت، وليعزم المسألة، فإنه لا مكره له‏)‏ إذ كان السائل إنما يسأل الله من حيث له أن يفعل لا من حيث له ترك الفعل، وهذا الباب وإن كان متعلقًا بباب القدر فله مدخل فى كتاب الاعتصام لدعاء النبى صلى الله عليه وسلم لهم إلى الإيمان الذى الاعتصام به يمنعهم القتل ويحقن الدم‏.‏

باب قَول اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا‏}‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ الآية ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏

- فيه‏:‏ عَلِىّ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ ابِنْة النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏(‏أَلا تُصَلُّونَ‏)‏‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، وَهُوَ مُدْبِرٌ، يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَيَقُولُ‏:‏ ‏(‏وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ‏)‏، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا، بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَنَادَاهُمْ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا مَعْشَرَ الْيَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا‏)‏، قالها ثلاثًا، فَقَالُوا‏:‏ قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ذَلِكَ أُرِيدُ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا‏)‏، قَالَهَا ثلاثًا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنِّى أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأرْضِ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ الجدال موضوعه فى اللغة المدافعة، فمنه مكروه، ومنه حسن، فما كان منه تثبيتًا للحقائق وتثبيتًا للسنن والفرائض، فهو الحسن وما كان منه على معنى الاعتذار والمدافعات للحقائق فهو المذموم‏.‏

وأما قول على فهو من باب المدافعة، فاحتج عليه النبى صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقال غيره‏:‏ وجه هذه الآية فى كتاب الاعتصام أن النبى صلى الله عليه وسلم عرض على على وفاطمة الصلاة فاحتج عليه على بقوله‏:‏ إنما أنفسنا بيد الله‏.‏

فلم يكن له أن يدفع ما دعاه النبى إليه بقوله هذا بل كان الواجب عليه قبول ما دعاه إليه، وهذا هو نفس الاعتصام بسنته صلى الله عليه وسلم؛ فلأجل تركه الاعتصام بقبول ما دعاه إليه من الصلاة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏، ولا حجة لأحد فى ترك أمر الله، وأمر رسوله بمثل ما احتج به على‏.‏

وأما حديث أبى هريرة، فموضع الترجمة منه أن اليهود لما بلغهم النبي صلى الله عليه وسلم ما لزمهم العمل به والإيمان بموجبه قالوا له‏:‏ قد بلغت يا أبا القاسم‏.‏

رادين لأمره فى عرضه عليهم الإيمان، فبالغ فى تبليغهم، وقال‏:‏ ذلك أريد‏.‏

ومن روى ‏(‏ذلك أريد‏)‏ بمعنى‏:‏ أريد بذلك بيانًا بتكرير التبليغ، وهذه مجادلة من النبى صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب بالتى هى أحسن‏.‏

وقد اختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقالت طائفة‏:‏ هى محكمة، ويجوز مجادلة أهل الكتاب بالتى هى أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 150‏]‏، معناه‏:‏ إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب، فجادلوهم بالسيف حتى يُسلموا أو يعطوا الجزية‏.‏

هذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ معناه‏:‏ ولا تجادلوا أهل الكتاب‏.‏

يعنى‏:‏ إذا أسلموا وأخبروكم بما كان فى كتبهم‏.‏

إلا بالتى هى أحسن‏:‏ فى المخاطبة، إلا الذين ظلموا‏:‏ بإقامتهم على الكفر فخاطبوهم بالشر، وقال‏:‏ وهى محكمة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هى منسوخة بآية القتال‏.‏

باب قَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ وَمَا أَمَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ‏:‏ هَلْ بَلَّغْتَ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ، هَلْ بَلَّغَكُمْ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ‏:‏ مَنْ يشهد لك‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَقَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ‏)‏، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ أى عَدْلا، إلى قوله‏:‏ ‏(‏شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

‏(‏معنى هذا الباب‏)‏ الاعتصام بالجماعة، ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، ولا يجوز أن يكونوا شهداء غير مقبولى القول، ولما كان الرسول واجبًا اتباعه وجب اتباع قولهم؛ لأن الله جمع بينه وبينهم فى قبول قولهم وزكاهم وأحسن الثناء عليهم بقوله‏:‏ ‏(‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ يعنى عدلاً‏.‏

والاعتصام بالجماعة كالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقيام الدليل على توثيق الله ورسوله صحة الإجماع وتحذيرهما من مفارقته بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏(‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ الآية‏.‏

وهاتان الآيتان قاطعتان على أن الأمة لا تجتمع على ضلال، وقد أخبر الرسول بذلك فهمًا من كتاب الله فقال‏:‏ ‏(‏لا تجتمع أمتى على ضلال‏)‏ ولا يجوز أن يكون أراد جميعها من عصره إلى قيام الساعة؛ لأن ذلك لا يفيد شيئًا؛ إذ الحكم لا يعرف إلا بعد انقراض جميعها، فعلم أنه أراد أهل الحل والعقد من كل عصر‏.‏

باب إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوِ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ خِلافَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ

لِقَوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأنْصَارِيَّ، إِلَى خَيْبَرَ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِى الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلا بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا هَذَا، وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ‏)‏‏.‏

قد تقدم هذا الباب فى كتاب الأحكام وفى كتاب الاعتصام ومعناه أن الواجب على من حكم بغير السنة جهلا وغلطًا، ثم تبين له أن سنة الرسول خلاف حكمه فإن الواجب عليه الرجوع إلى حكم السنة وترك ما خالفها امتثالا لأمره تعالى بوجوب طاعته وطاعة رسوله ألا يحكم بخلاف سنته، وهذا هو نفس الاعتصام بالسنة، وقد تقدم فيه، وأن الرسول أمر برد هذا البيع فى البيوع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وكذلك الميزان‏)‏ معناه‏:‏ وكذلك ما يوزن أن يباع مثلا بمثل مثل ما يكال‏.‏

باب أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ

- فيه‏:‏ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وإنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالمًا بالاجتهاد والسنن، وأما من لم يعلم ذلك فلا يدخل فى معنى الحديث، يدل على ذلك ما رواه الأعمش، عن سعيد ابن عبيدة، عن ابن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان فى النار، وقاض فى الجنة، فقاض قضى بغير الحق وهو يعلم، فذلك فى النار، وقاض قضى وهو لا يعلم فأهلك حقوق الناس فذلك فى النار، وقاض قضى بالحق، فذلك فى الجنة‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ إنما يؤجر على اجتهاده فى طلب الصواب لا على الخطأ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78‏]‏ الآية‏.‏

قال الحسن‏:‏ أثنى على سليمان ولم يذم داود‏.‏

وذكر أبو التمام المالكى أن مذهب مالك أن الحق فى واحد من أقاويل المجتهدين، وليس ذلك فى جميع أقاويل المتخلفين وبه قال أكثر الفقهاء‏.‏

قال‏:‏ وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكًا عن اختلاف الصحابة، فقال‏:‏ مخطئ ومصيب وليس الحق فى جميع أقاويلهم‏.‏

قال أبو بكر ابن الطيب‏:‏ اختلفت الروايات عن أئمة الفتوى فى هذا الباب كمالك وأبى حنيفة والشافعى‏:‏ فأما مالك، فالمروى عنه منعه المهدى من حمله الناس على العمل والفتيا بما فى الموطأ، وقال له‏:‏ دع الناس يجتهدون وظاهر هذا إيجابه على كل مجتهد القول بما يؤديه الاجتهاد إليه، ولو رأى أن الحق فى قوله فقط، أو قطع عليه لكان الواجب عليه المشورة على السلطان بالعمل به، ويبعد أن يعتقد مالك أن كل مجتهد مأمور بالحكم والفتيا باجتهاده، وإن كان مخطئًا فى ذلك، وذكر عن أبى حنيفة والشافعى القولين جميعًا‏.‏

واحتج من قال‏:‏ إن الحق فى واحد من أقاويل المجتهدين بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وهذا نص على أن فى المجتهدين وفى الحاكمين مخطئًا ومصيبًا، قالوا‏:‏ والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدى إلى كون الشىء حلالا حرامًا وواجبًا ندبًا ويلزم الحاكم اعتقاد كونه حلالا إذا رأى ذلك بعض أهل الاجتهاد، وحرامًا إذا رأى ذلك غيره، وأن تكون الزوجة محللة محرمة، والمال ملك الإنسان وغير ملك له إذا اختلف فى ذلك أهل الاجتهاد‏.‏

واحتج كل من قال‏:‏ كل مجتهد مصيب، فقالوا‏:‏ اتفق الكل من الفقهاء على أن فرض كل عالم الحكم والفتيا بما أداه الاجتهاد إليه، وما هو الحق عنده وفى غالب ظنه، وأنه حرام عليه أن يفتى ويحكم بقول مخالفه، ولو كان فى الأقاويل المختلف فيها ما هو خطأ وخلاف دين الله لم يجز أن تجمع الأمة على أن فرض القائل به؛ لأن إجماعها على ذلك إجماع على خطأ، وقد نهى الله عنه وشرع خلافه‏.‏

ولو جاز أن يكون أحدهما مخطئًا لأدى ذلك إلى أن الله تعالى أمر أحدهما بإصابة عين الباطل، وفى هذا القولُ بأن الله أمر بالباطل، وإذا فسد هذا مع كونه مأمورًا بالاجتهاد وجب كونه بفتياه ممتثلا أمر ربه وطائعًا له ومصيبًا عند الله، فثبت أن الحق مع كل واحد منهما بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏، ومع قيام الدليل على أن طاعة البارى إنما كانت طاعة لأمره بها كما أن المعصية كانت معصية لنهيه عنها‏.‏

وقد أجاب الشافعي عن هذا الحديث فى الرسالة بنحو هذا فقال‏:‏ لو كان فى الاجتهاد خطأ وصواب فى الحقيقة لم يجز أن يثاب على أحدهما أكثر من الآخر؛ لأن الثواب لا يجوز فيما لا يسوغ ولا فى الخطأ الموضوع إثمه عنا‏.‏

وقال ابن الطيب‏:‏ هذا الخبر يدل على أن كل مجتهد مصيب أولى وأقرب؛ لأن المخطئ لحكم الله والحاكم بغيره مع الأمر له به لا يجوز أن يكون مأجورًا على الحكم بالخطأ بل أقصى حالاته أن يكون إثمه موضوعًا عنه فأما أن يكون بمخالفة حكم الله مأجورًا فإنه باطل باتفاق، والنبى صلى الله عليه وسلم قد جعله مأجورًا، فدل ذلك على أن هذا ليس بخطأ فى شىء من الأحكام وجب عليه ولزمه الحكم به‏.‏

ويحتمل أن يكون معناه إذا اجتهد فى البحث والطلب للنص فأصابه وحكم بموجبه فله أجران‏:‏ أحدهما على البحث والطلب، والآخر على الحكم بموجبه، وأراد بقوله‏:‏ ‏(‏إن حكم فأخطأ‏)‏ أى‏:‏ أخطأ الخبر، بأن لم يبلغه مع الاجتهاد فى طلبه، ثم حكم باجتهاده المخالف لحكم النص كان مخطئًا للنص ومصيبه لا محالة فى الحكم؛ لأن الحكم بالاجتهاد عند ذلك هو فرضه‏.‏

ولهذا كان يقول عمر عندما كان يبلغه الخبر‏:‏ لولا هذا لقضينا فيه برأينا، ولم يقل له أحد من الصحابة‏:‏ لو قضيت فيه برأيك ولم يبلغك الخبر لكنت بذلك عاصيًا، ولم أردت أن تقضى بالرأى وهذا الخبر كان موجودًا، فدل إمساك الكل عن ذلك أن فرض الحاكم والمجتهد الحكم والفتيا برأيه، وإن خالف موجب الخبر، فإذا بلغه تغيرَ عند ذلك فرضُه ولزمه الحكم بموجبه‏.‏

ولا نقول‏:‏ إن كل مجتهد مصيب إلا فى الفروع ومسائل الاجتهاد التي يجوز للعامى فيها التقليد، وأما القول بوجوب الصلوات الخمس والصيام والحج وكل فرض يثبت العمل به بالتواتر والاتفاق فأصل من أصول الدين الذى يحرم خلافه كالتوحيد والنبوة وما يتصل بها‏.‏

باب الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ أَحْكَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ ظَاهِرَةً، وَمَا كَانَ يَغِيبُ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمُورِ الإسْلامِ

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ، فَوَجَدَهُ مَشْغُولا، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ‏؟‏ ائْذَنُوا لَهُ، فَدُعِىَ لَهُ، فَقَالَ‏:‏ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنَّا كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا، قَالَ‏:‏ فَأْتِنِى عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ لأفْعَلَنَّ بِكَ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالُوا‏:‏ لا يَشْهَدُ إِلا أَصَاغِرُنَا، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، فَقَالَ‏:‏ قَدْ كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ خَفِىَ عَلَىَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، إِنِّى كُنْتُ امْرًَا مِسْكِينًا أَلْزَمُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِى، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، وَكَانَتِ الأنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مَقَالَتِى، ثُمَّ يَقْبِضْهُ، فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّى‏)‏، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً، كَانَتْ عَلَىَّ، فَوَالَّذِى بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ‏.‏

هذا الباب يرد به على الرافضة وقوم من الخوارج زعموا بأن أحكام النبي وسننه منقولة عنه نقل تواتر، وأنه لا سبيل إلى العمل بما لم ينقل نقل تواتر، وقولهم فى غاية الجهل بالسنن وطرقها، فقد صحت الآثار أن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أخذ بعضهم السنن من بعض ورجع بعضهم إلى ما رواه غيره عن النبى صلى الله عليه وسلم وانعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد، وبطل قول من خرج عن ذلك من أهل البدع، هذا أبو بكر الصديق على مكانه لم يعلم النص فى الجدة حتى أخبره محمد بن مسلمة والمغيرة بالنص فيها، فرجع إليه، وأخذ عمر بن الخطاب بما رواه عبد الرحمن بن عوف فى حديث الوباء، فرجع إليه، وكذلك أخذ أيضًا عمر بما رواه أبو موسى فى دية الأصابع، فرجع إليه وأخذ أيضًا عمر بما رواه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فى دية الجنين، ورجع عمر إلى أبى موسى وأبى سعيد فى الاستئذان، وابن عمر يحكى عن رافع بن خديج النهى عن المخابرة فرجع إليه، والصحابة ترجع إلى قول عائشة‏:‏ ‏(‏إذا التقى الختانان وجب الغسل‏)‏ وأيضًا ترجع إليها فى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام ثم يصوم‏.‏

وأبو موسى يرجع إلى حديث ابن مسعود فى ابنة وابنة ابن وأخت وهذا الباب أكثر من أن يحصى‏.‏

باب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّةً لا مِنْ غَيْرِه

- فيه‏:‏ ابْن الْمُنْكَدِرِ، رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ، قُلْتُ‏:‏ تَحْلِفُ بِاللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنِّى سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ترك النكير من النبى صلى الله عليه وسلم حجة وسنة يلزم أمته العمل بها لا خلاف بين العلماء فى ذلك؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يرى أحدًا من أمته يقول قولا أو يفعل فعلا محظورًا فيقره عليه لأن الله تعالى فرض عليه النهى عن المنكر، فإذا كان كذلك علم أنه لا يرى أحدًا عمل شيئًا فيقره عليه إلا وهو مباح له، وثبت أن إقرار النبى صلى الله عليه وسلم عمر على حلفه أن ابن صياد الدجال إثبات أنه الدجال، وكذلك فهم جابر بن عبد الله من يمين عمر‏.‏

فإن اعترض بما روى من قول عمر للنبي‏:‏ دعنى أضرب عنقه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله‏)‏ فهذا يدل على شكه صلى الله عليه وسلم فيه، وترك القطع عليه أنه الدجال‏.‏

قيل‏:‏ عن هذا جوابان‏:‏ أحدهما أنه يمكن أن يكون هذا الشك منه صلى الله عليه وسلم كان متقدمًا ليمين عمر أنه الدجال، ثم أعلمه الله أنه الدجال فلذلك ترك إنكار يمينه عليه لتيقنه بصحة ما حلف عليه‏.‏

الوجه الآخر‏:‏ أن الكلام وإن خرج مخرج الشك فقد يجوز أن يراد به التيقن والقطع كقوله‏:‏ ‏(‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏، وقد علم تعالى أنه لا يقع منه الشرك، وإنما خرج منه هذا صلى الله عليه وسلم على المتعارف عند العرب فى تخاطبها‏.‏

قال الشاعر‏:‏

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل *** بين النقا آأنت أم أم سالم

فأخرج كلامه مخرج الشك مع كونه غير شاك فى أنها ليست بأم سالم، وكذلك خرج كلامه صلى الله عليه وسلم مخرج الشك لطفًا منه بعمر فى صرفه عن عزمه على قتله، وقد ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر قال‏:‏ لقيت ابن صياد يومًا ومعه رجل من اليهود، فإذا عينه قد طفت وهى خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها قلت‏:‏ أنشدك الله يا ابن صياد، متى طفت عينك‏؟‏ قال‏:‏ لا أدرى والرحم‏.‏

فقلت‏:‏ كذبت، لا تدرى وهى فى رأسك‏؟‏ قال‏:‏ فمسحها ونخر ثلاثًا فزعم اليهودي أني ضربت بيدي على صدره وقلت له‏:‏ أخسأ فلن تعدو قدرك، فذكرت ذلك لحفصة فقالت‏:‏ اجتنب هذا الرجل، فإنا نتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا كله يدل على الشك فى أمره‏.‏

قيل‏:‏ إن وقع الشك فى أنه الدجال الذى يقتله عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فلم يقع الشك فى أنه أحد الدجالين الذين أنذر بهم النبي صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ ‏(‏إن بين يدى الساعة دجالين كذابين أزيد من ثلاثين‏)‏ فلذلك لم ينكر على عمر يمينه والله أعلم؛ لأن الصحابة قد اختلفوا فى مسائل‏:‏ فمنهم من أنكر على مخالفة قوله، ومنهم من سكت عن إنكار ما خالف اجتهاده ومذهبه، فلم يكن سكوت من سكت رضا بقول مخالفه، إذ قد يجوز أن يكون الساكت لم يبين له وجه الصواب فى المسألة وأخرها إلى وقت آخر ينظر فيها، وقد يجوز أن يكون سكوته ليبين خلافها فى وقت آخر إذا كان ذلك أصلح فى المسألة‏.‏

فإن اعترض أن سكوت البكر حجة عليها‏.‏

قيل‏:‏ ليس هذا بمفسد لما تقدم؛ لأن من شرط كون سكوتها حجة عليها تقديم الإعلام لها بذلك؛ فسكوتها بعد الإعلام أنه لازم لها رضا منها وإقرار‏.‏

باب الأحْكَامِ الَّتِى تُعْرَفُ بِالدَّلائِلِ وَكَيْفَ مَعْنَى الدِّلالَةِ وَتَفْسِيرُهَا‏؟‏

وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَمْرَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ، فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7‏]‏، وَسُئِلَ عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا آكُلُهُ، وَلا أُحَرِّمُهُ‏)‏، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم الضَّبُّ، فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ‏:‏ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث وَسُئِلَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىَّ فِيهَا إِلا هَذِهِ الآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَيْضِ، كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏تَأْخُذِينَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَوَضَّئِينَ بِهَا‏)‏، قَالَتْ‏:‏ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏تَوَضَّئِى‏)‏، قَالَتْ‏:‏ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏تَوَضَّئِينَ بِهَا‏)‏، قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ فَعَرَفْتُ الَّذِى يُرِيدُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَجَذَبْتُهَا إِلَىَّ فَعَلَّمْتُهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِىِّ عليه السلام سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا، فَدَعَا بِهِنَّ النَّبيُِّ عليه السلام فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ، فَتَرَكَهُنَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُ، وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِل عَلَى مَائِدَتِهِ، وَلا أَمَرَ بِأَكْلِه‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ‏)‏، وَإِنَّهُ أُتِىَ بِبَدْرٍ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ‏:‏ يَعْنِى طَبَقًا، فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏قَرِّبُوهَا‏)‏، فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏كُلْ، فَإِنِّى أُنَاجِى مَنْ لا تُنَاجِى‏)‏‏.‏

وعَنِ ابْنِ وَهْبٍ‏:‏ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيّ عليه السلام وَكَلَّمَتْهُ بِشَىْءٍ فَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ، فَقَالَتْ‏:‏ أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ أَجِدْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنْ لَمْ تَجِدِينِى فَأْتِى أَبَا بَكْرٍ‏)‏‏.‏

زَادَ الْحُمَيْدِىُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، كَأَنَّهَا تَعْنِى الْمَوْتَ‏.‏

قال المهلب وغيره‏:‏ هذا كله بيِّن فى جواز القياس والاستدلال وموضع الاستدلال على أن فى الحمر أجرًا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7‏]‏، فحمل صلى الله عليه وسلم الآية على عمومها استدلالا بها‏.‏

وأما استدلال ابن عباس أن الضب حلال على مائدته صلى الله عليه وسلم بحضرته، ولم ينكره ولا منع منه بقوله‏:‏ ‏(‏ولا أحرمه‏)‏‏.‏

فيحتمل أن يكون استدلالا لا نصًا لاحتمال قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا أحرمه‏)‏ الندب إلى ترك أكله، فلما أكل بحضرته استدل ابن عباس بذلك على أنه لم يحرمه ولا ندب إلى تركه، ويحتمل أن يكون نصًا؛ لأن قوله‏:‏ ‏(‏ولا أحرمه‏)‏ فلا يتضمن الندب إلى ترك أكله فيكون نصًا في تحليله‏.‏

وأما حديث الحائض فهو استدلال صحيح؛ لأن السائلة لم تفهم غرض النبي صلى الله عليه وسلم حين أعرض عن ذكر موضع الأذى والدم حياء منه صلى الله عليه وسلم ولم تدر أن التتبع لأثر الدم بالحرقة سمى توضؤًا ففهمت ذلك عائشة من إعراضه فهو استدلال صحيح‏.‏

وأما حديث جابر فى الثوم والبصل فهو نص منه صلى الله عليه وسلم على جواز أكله بقوله‏:‏ ‏(‏كل، فإنى أناجى من لا تناجى‏)‏‏.‏

وأما حديث المرأة فهو استدلال صحيح استدل النبى بظاهر قولها‏:‏ فإن لم أجدك‏.‏

أنها أرادت الموت، فأمرها بإتيان أبى بكر‏.‏

قيل له‏:‏ قد يمكن أنه اقترن بسؤالها إن لم أجدك‏؟‏ حالة من الأحوال، وإن لم يكن نقلها دلته صلى الله عليه وسلم على مرادها، فوكلها إلى أبى بكر، وفى هذا دليل على استخلاف أبى بكر، وقد أمر الله عباده بالاستدلال والاستنباط من نصوص الكتاب والسنة وفرض ذلك على العلماء القائمين به‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَىْءٍ‏)‏

- فيه‏:‏ عَبْدِالرَّحْمَنِ، سَمِعَ مُعَاوِيَةَ، يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ كَعْبَ الأحْبَارِ، فَقَالَ‏:‏ إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأهْلِ الإسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ،‏)‏ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏ الآيَةَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَىْءٍ وَكِتَابُكُمِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَى رسوله صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا‏:‏ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا، أَلا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ‏؟‏ لا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ‏)‏ إنما هو فى الشرائع لا تسألوهم عن شرعهم فيما لا نعرفه من شرعنا لنعمل به؛ لأن شرعنا مكتف وما لا نص فيه عندنا ففى النظر والاستدلال ما يقوم الشرع منه‏.‏

وأما سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم من الأخبار عن الأمم السالفة فلم ننه عنه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد أمر الله رسوله بسؤال أهل الكتاب فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏‏.‏

قيل‏:‏ ليس هذا بمفسد لما تقدم من النهى عن سؤالهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكًا ولا مرتابًا، وقال أهل التأويل‏:‏ الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من الشكاك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وتقديره‏:‏ إن كنت أيها السامع فى شك مما أنزلنا على نبينا‏.‏

كقولهم‏:‏ إن كنت ابنى فبرنى‏.‏

وهو يعلم أنه ابنه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان المراد بالخطاب غير النبى صلى الله عليه وسلم فكيف يجوز سؤال الذين يقرءون الكتاب مع جحدهم النبوة‏؟‏ ففيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ سل من آمن من أهل الكتاب كابن سلام، وكعب الأخبار‏.‏

عن ابن عباس والضحاك، ومجاهد وابن زيد‏.‏

الثانى‏:‏ سلهم عن صفة النبى صلى الله عليه وسلم المبشر به فى كتبهم، ثم انظر ما يوافق تلك الصفة‏.‏

باب النَهْىِ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلا مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ‏:‏ حِينَ أَحَلُّوا‏:‏ أَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ

وَقَالَ جَابِرٌ‏:‏ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ‏:‏ نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِر، أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى الْحَجِّ خَالِصًا لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ، فَقَدِمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحِلَّ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَحِلُّوا وَأَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ‏)‏، قَالَ جَابِرٌ‏:‏ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ‏:‏ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلا خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا، فَنَأْتِى عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْىَ، قَالَ‏:‏ وَيَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَحَرَّكَهَا، فَقَامَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّى أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلا هَدْيِى لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، فَحِلُّوا فَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ‏)‏، فَحَلَلْنَا، وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ الْمُزَنِىُّ، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صَلُّوا قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ‏)‏ قَالَ فِى الثَّالِثَةِ‏:‏ ‏(‏لِمَنْ شَاءَ‏)‏، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً‏.‏

- وفيه‏:‏ جُنْدَب، قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ، فَقُومُوا عَنْهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، لَمَّا حُضِرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَفِى الْبَيْتِ رِجَالٌ منهِمْ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ‏)‏، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب‏:‏ إِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ‏:‏ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ‏:‏ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالاخْتِلافَ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ ‏(‏قُومُوا عَنِّى‏)‏‏.‏

قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ‏:‏ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب فذكر ابن الباقلانى، عن الشافعى أن النهى عنده على التحريم والإيجاب وقاله كثير من الناس، قال الجمهور من أصحاب مالك وأبى حنيفة والشافعى وجميع أهل الظاهر‏:‏ النهى عن الشىء يدل على فساد المنهى عنه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وهذا يدل على أنه عندهم على التحريم والإيجاب، وكذلك الأمر عند الدهماء من الفقهاء وغيرهم موضوع لإيجاب المأمور وحتمه إلا أن يقوم الدليل على أنه ندب، وحكى أبو تمام عن مالك أن الأمر عنده على الوجوب، وإلى هذا ذهب البخارى فى هذا الباب إلى أن النهى والأمر على الوجوب إلا ما قام الدليل على خلاف ذلك فيه، وذهبت الأشعرية إلى أن النهى لا يقتضى التحريم؛ بل يتوقف فيه إلى أن يرد الدليل‏.‏

قال ابن الطيب‏:‏ وقال هذا فريق من الفقهاء‏.‏

قال‏:‏ وقال كثير من أصحاب الشافعي‏:‏ إن الأمر موضوع للندب إلى الفعل فإن اقترن به ما يدل على كراهية تركه من ذم أو عقاب كان واجبًا، وقال به كثير من الفقهاء، واستشهد عليه الشافعى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوْا إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، وأمثاله مما ورد الأمر به على سبيل الندب‏.‏

قال ابن الطيب‏:‏ وقد دل بعض كلامه على أن مذهبه الوقف‏.‏

وقال أبو الحسن الأشعرى وكثير من الفقهاء والمتكلمين‏:‏ إنه محتمل للأمرين‏.‏

قال ابن الطيب‏:‏ وهذا الذى نقول به‏.‏

قال غيره‏:‏ والحجة للجماعة أن النهى على التحريم أنه موجب اللغة ومقتضاها، فإن من فعل ما نهى عنه استحق اسم العصيان؛ لأنه لا ينهى إلا عن قبيح قبل النهى، وعما هو له كاره، وقد فهمت الأمة تحريم الزنا، ونكاح المحرمات، والجمع بين الأختين، وتحريم بيع الغرر، وبيع ما لم يقبض بمجرد نهى الله تعالى ونهى رسوله عن ذلك لا شىء سواه‏.‏

قال أبو التمام‏:‏ وأما الحجة لوجوب الأمر فإن الله تعالى أطلق أوامره فى كتابه ولم يقرنها بقرينة، وكذلك فعل النبى صلى الله عليه وسلم فعلم أن إطلاق الأمر يقتضى وجوبه، ولو افتقر إلى قرينة لقرنت به‏.‏

والعرب لا تعرف القرائن، وإنما هو شىء أحدثه متأخرو المتكلمين فلا يجوز أن يقال‏:‏ إن لفظ الأمر لا تأثير له فى اللغة وأنه يحتاج إلى قرينة، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، فوجب بهذا الوعيد حمل الأمر على الوجوب‏.‏

وحجة الذين قالوا بالوقف وطلب الدليل على المراد بالأمر أن الأمر قد يرد على معان، فالواجب أن ينظر فإن وجد ما يدل على غير الواجب حمل عليه، وإلا فظاهره الوجوب؛ لأن قول القائل‏:‏ افعل لا يفهم منه لاتفعل ولا افعل إن شئت، إلا أن يصله بما يعقل به التخيير، فإذا عدم ذلك وجب تنفيذ الأمر، واحتجوا على وجوب طلب الدليل والقرينة على المراد بالأمر، فقالوا‏:‏ اتفق الجميع على جنس الاستفهام عن معنى الأمر غذا ورد هل هو على الوجوب أو الندب‏؟‏ ولو لم يصلح استعماله فيه لقبح الاستفهام عنه؛ لأنه لا يحسن أن يستفهم هل أريد باللفظ ما لا يصلح إجراؤه عليه إذا لا يصلح إذا قال القائل‏:‏ رأيت إنسانًا‏.‏

أن يقال له‏:‏ هل رأيت إنسانًا أو حمارًا‏.‏

وحسن أن يقال له‏:‏ أذكرًا رأيت أم أنثى لصلاح وقوعه عليهما‏.‏

وقد ثبت قبح الاستفهام مع القرائن الدالة بالمحتمل من اللفظ، وإنما يسوغ الاستفهام مع التباس الحال وعدم القرائن الكاشفة عن المراد‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وما ذكر البخارى فى هذا الباب من الآثار يبطل هذا القول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بالحل وإصابة النساء بين لهم أن أمره إياهم بإصابة النساء ليس على العزم، ولولا بيانه ذلك لكانت إصابتهم للنساء واجبة عليهم وكذلك بين لهم صلى الله عليه وسلم بنهيه النساء عن اتباع الجنائز أنه لم يكن نهى عزم ولا تحريم، ولولا بيانه ذلك لفهم من النهى بمجرده التحريم، وكذلك بين لهم بالقيام عن القراءة عند الاختلاف ليس على الوجوب؛ لأنه أمرهم بالائتلاف على ما دل عليه القرآن وحذرهم الفرقة‏.‏

فإذا حدثت شبهة توجب المنازعة فيه أمرهم بالقيام عن الاختلاف ولم يأمرهم بترك قراءة القرآن إذا اختلفوا فى تأويله لإجماع الأمة على قراءة القرآن لمن فهمه ولمن لم يفهمه، فدل أن قوله‏:‏ ‏(‏قوموا عنه‏)‏ على وجه الندب لا على وجه التحريم للقراءة عند الاختلاف‏.‏

وكذلك رآى عمر فى ترك كتاب رسول الله لهم حين غلبه الوجع من أجل تقدم العلم عنده وعند جماعة المؤمنين أن الدين قد أكمله الله، وأن الأمة قد اكتفت بذلك، فلا يجوز أن يتوهم أن هناك شيئًا بقى على النبى تبليغه فلم يبلغه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏(‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 54‏]‏، وقد أنبأنا الله أنه أكمل به الدين فقال‏:‏ ‏(‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وإذا ثبت هذا بأن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هلموا اكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده‏)‏ محمول على ما أشار به عمر بأنه قول من قد غلبه الوجع وشغل بنفسه، واكتفى بما أخبر الله تعالى به من إكمال الدين، وبأن بهذا مقدار علم عمر وتبريزه على ابن عباس فكل أمر لله تعالى وللرسول لم يكن واجبًا على العباد قد جاء معه من بيان النبى صلى الله عليه وسلم بتصريح أو بدليل ما فهم به أنه على غير اللزوم‏.‏

وقد فهم الصحابة ذلك من فحوى خطابه صلى الله عليه وسلم وكل أمر عرى عن دليل يخرجه عن الوجوب، وجب حمله على الوجوب؛ إذ لو كان مراد الله به غير الوجوب لبينه النبى صلى الله عليه وسلم لأمته، فوجب أن يكون ما عرى من بيانه صلى الله عليه وسلم أنه على غير الوجوب غير مفتقر إلى طلب دليل أو قرينة أن المراد به الوجوب؛ لقيام لفظ الأمر بنفسه، وكذلك ما عرى من نهيه صلى الله عليه وسلم من دليل يخرجه عن التحريم وجب حمله على التحريم كحكم الأمر سواء، على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء‏.‏

ووقع فى بعض الأمهات فى هذا الباب النهى عن التحريم وهو غلط من الناسخ والصواب فيه باب النهى على التحريم يعنى أن النهى محمول على التحريم إلا ما علمت إباحته على حديث أم عطية‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمْرِ‏}‏

وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ، لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَاوَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِى الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ، فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لأمَتَهُ وَعَزَمَ، قَالُوا‏:‏ أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَالَ‏:‏ لا يَنْبَغِى لِنَبِىٍّ يَلْبَسُ لأمَتَهُ، فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الإفْكِ عَائِشَةَ، فَسَمِعَ مِنْهُمَا حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَجَلَدَ الرَّامِينَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ، وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ‏.‏

وَكَانَتِ الأئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشِيرُونَ الأمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى الأمُورِ الْمُبَاحَةِ؛ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ اقْتِدَاءً بِالنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ؛ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ، وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولا كَانُوا، أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا، وَدَعَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًا، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْىُ يَسْأَلُهُمَا، وَيَسْتَشِيرُهُمَا فِى فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ بِالَّذِى يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَأَمَّا عَلِىٌّ فَقَالَ‏:‏ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

اختلف أهل التأويل فى المعنى الذى أمر الله نبيه أن يشاور أصحابه، فقالت طائفة‏:‏ أمر الله أن يشاورهم فى مكائد الحروب وعند لقاء العدو تطييبًا لنفوسهم وتألفًا لهم على دينهم وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله قد أغناه عن رأيهم بوحيه‏.‏

روى هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنما أمر بمشورتهم فيما لم يأته فيه وحى، ليبين لهم صواب الرأى‏.‏

روى ذلك عن الحسن البصرى والضحاك قالا‏:‏ ما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما فى المشورة من الفضل‏.‏

قال الحسن‏:‏ وما شاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنما أمره الله بمشاورة أصحابه مع غناه عنهم بتدبيره تعالى له وسياسته إياه؛ ليستن به من بعده ويقتدوا به فيما ينزل بهم من النوازل‏.‏

قال سفيان الثورى‏:‏ وقد سن رسول الله الاستشارة فى غير موضع، استشار أبا بكر وعمر فى أسارى بدر، واستشار أصحابه فى يوم الحديبية‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ قال قتادة‏:‏ أمر الله نبيه إذا عزم على أمر أن يمضى فيه ويتوكل على الله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وامتثل هذا النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏لا ينبغى لنبى لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله‏)‏ أى‏:‏ ليس ينبغى له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقض التوكل الذى شرط الله مع العزيمة، فلبسه لأمته دال على العزيمة، وفى أخذ النبى صلى الله عليه وسلم بما أمره الله من الرأى بعد المشورة حجة لمن قال من الفقهاء أن الأنبياء يجوز لهم الاجتهاد فيما لا وحى عندهم فيه‏.‏

وقد تقدم بيان ذلك قبل هذا‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن للمستشير والحاكم أن يعزم من الحكم على غير ما قال به مشاوره إذا كان من أ صلى الله عليه وسلم ل الرسوخ فى العلم، وأن يأخذ بما يراه كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى مسألة عائشة فإنه شاور عليًا وأسامة، فأشار عليه أسامة بإمساكها، وأشار عليه على بفراقها، فلم يأخذ بقول أحدهما وتركها عند أهلها حتى نزل القرآن فأخذ به، وكذلك فعل أبو بكر الصديق فإنه شاور أصحابه فى مقاتلة من منع الزكاة، وأخذ بخلاف ما أشاروا به عليه من ترك قتالهم لما كان عنده متضحًا من قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إلا بحقها‏)‏ وفهمه هذه النكتة مع ما يعضدها من قوله‏:‏ ‏(‏من غير دينه فاقتلوه‏)‏‏.‏

وأما قول البخارى‏:‏ فكان الأمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم، فبذلك تواصى العلماء والحكماء‏.‏

قال سفيان الثورى‏:‏ ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة ومن يخشى الله، فإذا أشار أحد برأى سأله‏:‏ من أين قاله‏؟‏ فإن اختلفوا أخذ بأشبههم قولا بالكتاب والسنة، ولا يحكم بشىء حتى يتبين له حجة يجب الحكم بها‏.‏

وقول البخاري‏:‏ فإذا وضح الكتاب والسنة يعنى‏:‏ إن وجد فيهما نص لم يتعدوه، وإن لم يوجد نص وسعهم الاجتهاد‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ وإنما يؤمر الحاكم بالمشورة؛ لأن المشير ينبهه لما يغفل عنه ويدله من الأخبار على ما يجهله، فأما أن يقلد مشيرًا فلم يجعل الله هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أبو الحسن بن القابسى‏:‏ قوله‏:‏ فجلد الرامين لها‏.‏

لم يأت فيه بإسناد وذكره غير مسندًا وقوله‏:‏ فسمع منهما‏.‏

يعنى‏:‏ فسمع قول على وأسامة على اختلافهما فيه‏.‏

وقوله‏:‏ لم يلتفت إلى تنازعهم‏.‏

يعنى‏:‏ عليًا وأسامة، وأراد‏:‏ تنازعهما‏.‏

وأظن الألف سقطت من الكتّاب‏.‏